فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}.
{البدن} جمع بدنة وهي ما أشعر من ناقة أو بقرة، قاله عطاء وغيره وسميت بذلك لأنها تبدن أي تسمن، وقيل بل هذا الاسم خاص بالإبل، وقالت فرقة {البدن} جمع بَدَن بفتح الدال والباء ثم اختلفت، فقال بعضها {البدن} مفرد اسم جنس يراد به العظيم السمين من الإبل والبقر، ويقال للسمين من الرجال بدن، وقال بعضها {البدن} جمع بدنة كمثرة وثمر، وقرأ الجمهور: {والبدْن} ساكنة الدال، وقرأ أبو جعفر وشيبة والحسن وابن أبي إسحاق {البدُن} بضم الدال، فيحتمل أن يكون جمع بدنة كثمر، وعدد الله تعالى في هذه الآية نعمته على الناس في هذه {البدن}، وقد تقدم القول في الشعائر، والخير قيل فيه ما قيل في المنافع التي تقدم ذكرها والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة، وقوله، {عليها} يريد عند نحرها، وقرأ جمهور الناس {صوافَّ} بفتح الفاء وشدها جمع صافَّة أي مصطفة في قيامها، وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعري وشقيق وسليمان التيمي والأعرج {صوافي} جمع صافية أي خالصة لوجه الله تعالى لا شركة فيها لشيء كما كانت الجاهلية تشرك، وقرأ الحسن أيضًا {صوافٍ} بكسر الفاء وتنوينها مخففة وهي بمعنى التي قبلها لَكِن حذفت الياء تخفيفًا على غير قياس وفي هذا نظر، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو جعفر محمد بن علي {صوافن} بالنون جمع صافنة وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب، والصافن من الخيل الرافع لفراهيته إحدى يديه وقيل إحدى رجليه ومنه قوله تعالى: {الصافنات الجياد} [ص: 31].
وقال عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه ** مقلدة أعنتها صفونا

و{وجبت}، معناه سقطت بعد نحرها، ومنه وجبت الشمس، ومنه قول أوس بن جحر: ألم تكسف الشمس والبدر والكواكب للجبل الواجب، وقوله: {كلوا} ندب، وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هديه وفيه أجر وامتثال إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم، وقال مجاهد وإبراهيم والطبري: هي إباحة، و{القانع}، السائل يقال قنَع الرجل يقنع قنوعًا إذا سأل، بفتح النون في الماضي، وقنِع بكسر النون يقنع قناعة فهو قنع إذا تعفف واستغنى، قاله الخليل ومن الأول قول الشماخ:
لَمَالُ المرء يصلحه فيغني ** مفاقره أعف من القنوع

فمحرور القول من أهل العلم قالوا {القانع} السائل {والمعتر} المتعرض من غير سؤال، قال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن بن أبي الحسن، وعكست فرقة هذا القول، حكى الطبري عن ابن عباس أنه قال: {القانع} المستغني بما أعطيه {والمعتر} المتعرض، وحكي عنه أنه قال: {القانع} المتعفف {والمعتر} السائل، وحكي عن مجاهد أنه قال: {القانع} الجار وإن كان غنيًّا، وقرأ أبو رجاء {القنع} فعلى هذا التأويل معنى الآية أطعموا المتعفف الذي لا يأتي متعرضًا والمتعرض، وذهب أبو الفتح بن جني إلى أنه أراد القانع فحذف الألف تخفيفًا وهذا بعيد لأن توجيهه على ما ذكرته آنفًا أحسن وإنما يلجأ إلى هذا إذا لم توجد مندوحة، وقرأ أبو رجاء وعمرو بن عبيد {المعترى} والمعنى واحد، وروي عن أبي رجاء {والمعتر} بتخفيف الراء وقال الشاعر: الطويل:
لعمرك ما المعتر يغشى بلادنا ** لنمنعه بالضائع المتهضم

وذهب ابن مسعود إلى أن الهدي أثلاث، وقال جعفر بن محمد عن أبيه: أطعم {القانع والمعتر} ثلثًا، والبائس الفقير ثلثًا، وأهلي ثلثًا، وقال ابن المسيب: ليس لصاحب الهدي منه إلا الربع وهذا كله على جهة الاستحسان لا على الفرض، ثم قال: {كذلك} أي وكما أمرناكم فيها بهذا كله {سخرناها لكم}، {ولعلكم}، ترجّ في حقنا وبالإضافة إلى نظرنا، وقوله، {ينال} عبارة مبالغة وتوكيد وهي بمعنى لن يرتفع عنده ويتحصل سبب ثواب، وقال ابن عباس إن أهل الجاهلية كانوا يضرجون البيت بالدماء فأراد المؤمنون فعل ذلك فنهى الله عن ذلك ونزلت هذه الآية، والمعنى ولَكِن ينال الرفعة عنده والتحصيل حسنة لديه، {التقوى}، أي الإخلاص والطاعات، وقرأ مالك بن دينار والأعرج وابن يعمر والزهري {تنال وتناله}، بتاء فيهما، والتسمية والتكبير على الهدي والأضحية هو أن يقول الذابح باسم الله والله أكبر، وروي أن قوله: {وبشر المحسنين}، نزلت في الخلفاء الأربعة حسبما تقدم في التي فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {والبُدْنَ} وقرأ الحسن، وابن يعمر برفع الدال.
قال الفراء: يقال: بُدْن وبُدُن، والتخفيف أجود وأكثر، لأن كل جمع كان واحده على فَعَلة ثم ضُمَّ أول جمعه، خُفِّف، مثل أَكَمَة وأُكْم، وأَجَمَة وأُجْم، وخَشَبَة وخشب.
وقال الزجاج: البُدْنَ منصوبة بفعل مُضمر يفسره الذي ظهر، والمعنى: وجعلنا البُدْنَ؛ وإِن شئت رفعتها على الإِستئناف، والنصب أحسن، ويقال: بُدْن وبُدُن وبَدَنة، مثل قولك: ثُمْر وثُمُر وَثَمرة؛ وإِنما سمِّيت بَدَنَة، لأنها تَبْدُن، أي: تسمن.
وللمفسرين في البُدْن قولان.
أحدهما: أنها الإِبل والبقر، قاله عطاء.
والثاني: الإِبل خاصة، حكاه الزجاج، وقال: الأول قول أكثر فقهاء الأمصار.
قال القاضي أبو يعلى: البدنة: اسم يختص الإِبل في اللغة، والبقرة تقوم مقامها في الحكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة.
قوله تعالى: {جعلناها لكم من شعائر الله} أي: جعلنا لكم فيها عبادة لله، من سَوْقها إِلى البيت، وتقليدها، وإِشعارها، ونحرها، والإِطعام منها، {لكم فيها خير} وهو النفع في الدنيا والأجر في الآخرة، {فاذكروا اسم الله عليها} أي: على نحرها، {صَوَافّ} وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة: {صَوافن} بالنون.
وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو العالية، والضحاك، وابن يعمر: {صَوافي} بالياء.
قال الزجاج: {صَوافَّ} منصوبة على الحال، ولَكِنها لا تنوَّن لأنها لا تنصرف؛ أي: قد صفَّت قوائمها، والمعنى: اذكروا اسم الله عليها في حال نحرها، والبعير يُنحَر قائمًا، وهذه الآية تدل على ذلك.
ومن قرأ: {صوافن} فالصافن: التي تقوم على ثلاث، والبعير إِذا أرادوا نحره، تُعقل إِحدى يديه، فهو الصافن، والجميع: صوافن.
هذا ومن قرأ: {صوافيَ} بالياء وبالفتح بغير تنوين، فتفسيره: خوالص، أي: خالصة لله لا تشركوا به في التسمية على نحرها أحدًا.
{فإذا وجبت جنوبها} أي: إِذا سقطت إِلى الأرض، يقال: وَجَبَ الحائط وَجْبَة، إِذا سقط.
ووَجَبَ القلب وَجِيبًا: إِذا تحرك من فزع.
واعلم أن نحرها قيامًا سُنَّة، والمراد بوقوعها على جُنوبها: موتها، والأمر بالأكل منها أمر إِباحة، وهذا في الأضاحي.
قوله تعالى: {وأَطْعِموا القانعَ والمُعْتَرَّ} وقرأ الحسن: {والمُعْتَرِ} بكسر الراء خفيفة.
وفيهما ستة أقوال.
أحدها: أن القانع: الذي يَسأل، والمعترّ: الذي يتعرَّض ولا يسأل، رواه بكر بن عبد الله عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، واختاره الفراء.
والثاني: أن القانع: المتعفّف، والمعترّ: السائل، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والنخعي، وعن الحسن كالقولين.
والثالث: أن القانع: المستغني بما أعطيته وهو في بيته، والمعترّ: الذي يتعرَّض لك ويُلِمُّ بك ولا يسأل، رواه العوفي عن ابن عباس.
وقال مجاهد: القانع: جارك الذي يقنع بما أعطيته، والمعترّ: الذي يتعرَّض ولا يسأل، وهذا مذهب القرظي.
فعلى هذا يكون معنى القانع: أن يقنع بما أُعطي.
ومن قال: هو المتعفف، قال: هو القانع بما عنده.
والرابع: القانع: أهل مكة، والمعترّ: الذي يعترُّ بهم من غير أهل مكة، رواه خصيف عن مجاهد.
والخامس: القانع: الجار وإِن كان غنيًّا، والمعترّ: الذي يعترُّ بك، رواه ليث عن مجاهد.
والسادس: القانع: المسكين السائل، والمعترّ: الصَّديق الزائر، قاله زيد ابن أسلم.
قال ابن قتيبة: يقال: قَنَع يَقْنَع قُنوعًا: إِذا سأل، وقَنِع يَقْنَع قَنَاعة: إِذا رضي، ويقال في المعتر: اعترَّني واعتراني وعَرَاني.
وقال الزجاج: مذهب أهل اللغة أن القانع: السائل، يقال: قَنَع يَقْنَع قُنُوعًا: إِذا سأل، فهو قانع، قال الشماخ:
لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنِي ** مَفاقِرَهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوع

أي: من السؤال؛ ويقال: قَنِعَ قَنَاعة: إِذا رضي، فهو قَنِع، والمعترُّ والمعترى واحد.
قوله تعالى: {كذلك} أي: مثل ما وصفنا من نحرها قائمة {سخَّرناها لكم} نِعمة مِنّا عليكم لتتمكَّنوا من نحرها على الوجه المسنون {لعلكم تَشْكُرون} أي: لكي تَشْكُروا.
قوله تعالى: {لن ينال اللهَ لحومُها} وقرأ عاصم الجحدري، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، ويعقوب: {لن تنال اللهَ لحومُها} بالتاء {ولَكِن تنالُه التقوى} بالتاء أيضًا.
سبب نزولها أن المشركين كانوا إِذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء ينضحون بها نحو الكعبة، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
قال المفسرون: ومعنى الآية: لن تُرفع إِلى الله لحومُها ولا دماؤها، وإِنما يُرفع إِليه التقوى؛ وهو ما أُرِيدَ به وجهُه منكم.
فمن قرأ {تناله التقوى} بالتاء، فإنه أنث للفظ التقوى.
ومن قرأ: {يناله} بالياء، فلأن التقوى والتُّقى واحد.
والإشارة بهذه الآية إِلى أنه لا يقبل اللحوم والدِّماء إِذا لم تكن صادرة عن تقوى الله، وإِنما يتقبل ما يتقونه به، وهذا تنبيه على امتناع قبول الأعمال إِذا عريت عن نيَّةٍ صحيحة.
قوله تعالى: {كذلك سَخَّرها} قد سبق تفسيره [الحج: 37]، {لتُكَبِّروا الله على ما هداكم} أي: على ما بيَّن لكم وأرشدكم إِلى معالم دينه ومناسك حجِّه، وذلك أن يقول: الله أكبر على ما هدانا، {وبَشِّر المحسنين} قال ابن عباس: يعني: الموحِّدين. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} فيها عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {والبدن} وقرأ ابن أبي إسحاق {والبُدُن} لغتان، واحدتها بَدَنة.
كما يقال: ثمرة وثُمُر وثُمْر، وخشبة وخُشُب وخُشْب.
وفي التنزيل: {وكان له ثُمُر} وقرئ {ثمْر} لغتان.
وسميت بَدَنة لأنها تَبْدُن، والبدانة السِّمن.
وقيل: إن هذا الاسم خاص بالإبل.
وقيل: البُدْن جمع بَدَن بفتح الباء والدال.
ويقال: بَدُن الرجل بضم الدال إذا سَمِن.
وبدّن بتشديدها إذا كبِر وأسنّ.
وفي الحديث: «إني قد بدّنت» أي كبِرت وأسننت.
وروي «بَدُنْت» وليس له معنى؛ لأنه خلاف صفته صلى الله عليه وسلم، ومعناه كثرة اللحم.
يقال: بَدُن الرجل يبدُن بُدْنًا وبَدانة فهو بادن؛ أي ضخم.
الثانية: اختلف العلماء في البُدْن هل تطلق على غير الإبل من البقر أم لا؛ فقال ابن مسعود وعطاء والشافعيّ: لا.
وقال مالك وأبو حنيفة: نعم.
وفائدة الخلاف فيمن نذر بَدَنة فلم يجد البدنة أو لم يقدر عليها وقدر على البقرة؛ فهل تجزيه أم لا؛ فعلى مذهب الشافعيّ وعطاء لا تجزيه.
وعلى مذهب مالك تجزيه.
والصحيح ما ذهب إليه الشافعيّ وعطاء؛ لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح في يوم الجمعة: «من راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة» الحديث.
فتفريقه عليه السلام بين البقرة والبَدَنة يدلّ على أن البقرة لا يقال عليها بدنة؛ والله أعلم.
وأيضًا قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يدل على ذلك؛ فإن الوصف خاص بالإبل.
والبقر يضجع ويذبح كالغنم؛ على ما يأتي.
ودليلنا أن البدنة مأخوذة من البدانة وهو الضخامة، والضخامة توجد فيهما جميعًا.
وأيضًا فإن البقرة في التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدم بمنزلة الإبل؛ حتى تجوز البقرة في الضحايا عن سبعةٍ كالإبل.
وهذا حجة لأبي حنيفة حيث وافقه الشافعيّ على ذلك، وليس ذلك في مذهبنا.
وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم بدنة، وهو قول شاذ.
والبُدْن هي الإبل التي تُهْدَى إلى الكعبة.
والهَدْي عامّ في الإبل والبقر والغنم.
الثالثة: قوله تعالى: {مِّن شَعَائِرِ الله} نصٌّ في أنها بعض الشعائر.